حرب في ظاهرها بين دولتين وفي باطنها ما أكبر من هذا بكثير وهو الشكل الذي ربما علينا أن نعتاده للحروب العالمية المقبلة.
وعندما ستذوب ثلوج شتاء 2022 على الأراضي الأوكرانية. سينبعث من تحت مرجر رماد الحرب تاريخ جديد لهذا العالم.
بعد نزال مسلح دموي سيرسم ملامح النظام العالمي الجديد لأنه ماعاد سرا. أن بوتين يسعى الى الإطاحة بالنظام العالمي القديم فأراد الحرب في أوكرانيا لتكون مجرد ضربة البداية.
رغم أن فيها كل ما يرعب بالحروف من إلتحام الجيوش ودبابات وطائرات وصواريخ ومدفعية وحتى ربما أسلحة نووية تكتيكية بمدى محدود.
إلا أن الجيشان المتحاربان على الورق روسيا وأوكرانيا وعلى الأرض وفي الجوهر هي حرب كونية بين روسيا وأمريكا. مع إمتدادات روسيا صينيا. ونحو معسكر ديكتاتورات الشرق الأقصى ككوريا الشمالية. ثم تشعبات أمريكا بريطانيا اوروبيا. فليست أقل شأنا من لبعضهم الخلفاء بالحروب.
اليوم كل الحديث عن دمار وخراب وقتلى وجوع وتشرد ونزوح .وخلاف على توصيفات جرائم حرب تراها فرنسا وأوروبا. وإبادة جماعية إقتنعت بها واشنطن.
لكن إذا ما حطت الحرب أوزارها قد تكون النهايات ليست كنهاية أي حرب اخرى وربما من سيعلن النصر أخيرا جميع المتحاربين فيقول هذا انتصرنا. وهذه أهدافنا تحققت ويقول ذاك إنتصرنا.
أما شهدتم صمودنا وفي النهاية تبقى حقيقة واحدة ان العالم الذي سيخرج من تحت رماد حرب أوكرانيا وروسيا. لن يكون أبدا كالعالم الذي عشناه قبل هذه الحرب.
بل عالم بنظام لا يمنح أمريكا وأوروبا سوى ثلث عجلة القيادة التي تتحكم في مصير الكوكب.
مع الإعتراف بقوة روسيا العسكرية والسياسية وبالصعود الصيني الإقتصادي والعسكري. مع قطيعة بين دول المعسكرات المتناحرة.
الحرب الكونية بحلة جديدة.
لم تنخرط جيوش أمريكا وأوروبا في الحرب إلى جانب أوكرانيا لكنها كانت حاضرة عسكرية وبقوة عبر تسليح كبير مكنت كييف من المقاومة وأفشلت خطط بوتين. الذي إعتقد أن النصر إنما حرب أيام فامتدت الأيام لأسابيع وربما الأسابيع لشهور.
حتى العقوبات الإقتصادية الأمريكية الأوروبية ضد روسيا أوصلت موسكو إلى مكان أكد فيه بوتين أن العقوبات إعلان حرب.
التدفقات إلى أوروبا لم تقتصر على الأسلحة. بل جاءها الاف المتطوعين من دول أوروبا وأمريكا الحليفة. في ظل تقارير عن مشاركة قوات خاصة أمريكية وبريطانية بشكل مباشر بالحرب.
كما أن الحملة الإعلامية والسياسية على روسيا وبوتين شخصيا يذكر بما لا يدع مجالا للشك بأن بوتين في نظر أوروبا وأمريكا اليوم ما هو إلا المكافئ أدولف هتلر. الزعيم النازي في الحرب العالمية الثانية.
وفي المقلب الآخر يمكن التأكيد ببساطة أن الصين لم تقدم أي دعم عسكري لروسيا في حربها على أوكرانيا. كما قد يقول قائل أن الدعم السياسي أيضا لم يكن على قدر التوقعات.
لكن الحقائق تشير الى أن الصين لن تتخلى للحظة عن الحليف الروسي عبر دعم مالي وإقتصادي مع رفض الإدانة كما تطلبها أمريكا التي وصلت لحد تهديد الصين ما لم تتخذ موقف معاديا صريحا لروسيا.
حتى كوريا الشمالية لم تتوقف عن تهديد أمريكا برشقات صواريخ نووية دعما للحليف الروسي وفي الشرق المتوسط وبلاد العرب رغم أن الدول الفاعلة فضلت مسك العصا من المنتصف.
إلا أن خروج من كان يتهم بالتبعية لأمريكا كاالإمارات والسعودية من فلك واشنطن و إدارة مصر لموقفها بما يتناسب مع حاجاتها القومية خاصة بمجال استيراد الطاقة والحبوب.
وتغليب هذه الدول مصالحها الوطنية على أجندات أمريكا بإستثناء قطر التي مازالت تعتقد أنها ربما تعوض أمريكا أوروبا عن إمدادات الطاقة الروسية.
كل هذا جعل من شكل التحالفات أكثر تعقيدا من ذي قبل. ما يعني أن خاتمة هذه الحرب انعنت إنتهاء الأعمال العسكرية بعد تحقق الأهداف الروسية الأساسية بحياد أوكرانيا وعدم إضمامها للناتو او تسلحها بما يهدد الأمن القومي الروسي وبالتفاهم داخليا على إحياء إتفاق مينسك أو مينسك اثنين.
لكن تكهنات مراكز التحليل الإستراتيجي لما بعد الحرب تتحدث عن إمتدادات تشبه امتداذات أي حرب عالمية تكرس شكلا جديدا للعالم بعلاقات وتحالفات مختلفة ونظام دولي لم نعهده من قبل.
إذا كتبت روسيا التاريخ.
حال سمح التاريخ لروسيا بأن تكون كتبت تاريخ الإنتصار بعد الحرب. فإن الامور ستسير بلا شك بسيد الكرملين نحو المشاركة في حكم العالم.
لأن الأزمة الأوكرانية تجسد من وجهة نظر فلادمير بوتين سعيا لإعادة رسم خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة وإستعادة نفوذ موسكو نحو نصف أوروبا.
ما يعني أن عقيدة وفكر بوتين باقيان ربما حتى بعد رحيله ما سيلقي بظلاله على العالم لفترة طويلة.
خاصة إذا ما نجحت إستراتيجية بوتين على المدى البعيد لفك إرتباط دول البلطيق بحلف شمال الأطلسي. من خلال إثبات أن الحلف عاجز عن تقديم الحماية لها.
ومع وجود بولندا والمجر وخمسة أعضاء آخرين في الناتو يتشاركون الحدود مع روسيا الجديدة الموسعة. فإن قدرة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي ناتو على الدفاع عن الجدار الشرقي للحلف سوف تتضاءل بشكل كبير. كما سيعمل بوتين لتكريس دعمه لليمين المتطرف داخل دول اوروبا.
وتوسيع الشقاق داخل المجتمعات الغربية. بين ذوي التوجه الأوروبي والأمريكي والجماعات المشككة في الإتحاد الاوروبي
والمناهضة لهيمنة أمريكا في القارة الاوروبية.
ومع إضعاف التحالف الأطلسي فيبدو الطريق ممهدا لبوتين نحو هدفه النهائي للاطاحة بالنظام الدولي الذي تلا الحرب الباردة وتكريس روسيا كقوة عظمى مجددا في عالم ثلاثي الاقطاب
أمريكا في أوروبا.
![]() |
بعد عقود على نظام دولي قائم على أن واشنطن هي شرطي الكوكب ومع الإتفاق بحفظ مصالحها في أوروبا من خلال شركائها هناك.
فإن الحرب الروسية الأوكرانية اليوم ستنتج علاقة جديدة بين أمريكا وأوروبا. بحيث تصبح القارة العجوز مركز التحرك الأمريكي.
إذ أنه مع هيمنة روسيا على أوكرانيا سيغيب الأمن والإستقرار عن أوروبا كما عهدته من قبل. وذلك في منطقة واسعة تبدأ من إستونيا لتشمل بولندا حتى رومانيا وتركيا. خاصة وأن جيران أوكرانيا سينظرون إلى وجود روسيا كعدو يهدد الأمن ويتربص اللحظة للانقضاض.
كما ان كل أوروبا ستواجه تحديات شديدة وعلى رأسها المانيا التي لا تملك جيشا قويا يمكنها من الدفاع عن نفسها. أو عن جيرانها بعد التقدم الروسي غربا.
فسيضع المسئولية الأكبر على فرنسا وبريطانيا اللتان ستقودان الجهود العسكرية بفضل قواتهم المسلحة القوية نسبيا. إلا أن كل هذا لن يؤدي لتراجع محتمل لدور حلف الناتو.
حيث ستبقى الولايات المتحدة هي صاحبة الكلمة العليا في أوروبا. وستعطي من قوتها للحلف الذي سيحاول تجاوز نكسته بأوكرانيا. ليطمئن دول شرق أوروبا القلقة والمعرضة للخطر على طول حدودي مترامية الأطراف وغير مستقرة مع روسيا.
بما في ذلك بيلاروس والأجزاء التي تسيطر عليها روسيا في اوكرانيا.
ما سيعني ببساطة أن الولايات المتحدة بعد حرب أوكرانيا ستحضر في أوروبا اكثر من أي وقت مضى. وستتخذ من القارة العجوز محورا لها عبر حلف الناتو الذي سيبقى الأداة المنطقية التي تمكن للولايات المتحدة من توفير ضمانات أمنية وان تردع روسيا.
رغم أن الأروبيين يعلمون جيدا أن هذا الحلف لن يكون مظلة الأمن المطلقة. لتصبح حرب أوكرانيا النداء الأخير لتحسين القدرات الدفاعية الاوروبية. ومساعدة أمريكا على إدارة المعضلة الروسية الصينية.
مخالب التنين تظهر.
بات إيمان العالم يتعاظم بأن الصين تتحول تدريجيا من تنين الإقتصاد الى تنين محارب أكثر جرأة بعد المغامرة الروسية. ما يحقق أهداف الصين التي وضعتها منذ ردح من الزمن وعلى رأسها إبقاء الحزب الشيوعي الصيني. "سي سي بي " على السلطة وإحتلال تايوان وضمها الى البر الصيني الرئيسي والسيطرة على شرق الصين وبحر الصين الجنوبي.
مع إرجاع الصين إلى مكانة تجعلها قوة مهيمنة في آسيا وأقوى دولة في العالم. ورغم أن الصين إنتهجت خلال نصف قرن تقريبا. طرقا هادئة وسلمية نسبيا لتحقيق أهدافها من دون صدامات كبرى.
لكن العالم لطالما عرف وأمن أن بكين تسير على نهج الزعيم الصيني "بيانج شياو بياك." الذي قال أخفي قوتك وانتظر الوقت المناسب.
وقبيل الحرب الأوكرانية الروسية بدا ظاهر للعيان مدى تطور القوة العسكرية الصينية. كما توسعت الصين بقوة على جبهات متعددة.
ما حدا بمراكز بحثية القول أن الصين إحلت دبلوماسية الذئب المحارب محل دبلوماسية الصداقة في منطقة شرق اسيا البحرية.
ومع تصاعد الدعوات داخل قيادات الحزب الحاكم في الصين لغزو تايوان وفي اسوأ السيناريوهات لأمريكا والغرب قد تستفيد الصين من إصرار روسيا في أوكرانيا وتغزو تايوان فعلا.
لتصبح واشنطن بين خيارين مجددا. إم مواجهة الصين بحرب عالمية أو إعتماد الصيغة الجديدة للحروب العالمية. عبر الدعم والاسناد والتسليح لتايوان.
وفور تحقيق بكين مكاسب في شرق آسيا وغرب المحيط الهادي فسوف يبشر ذلك بنهاية النظام العالمي الحالي. إذ أن الصين أدركت منذ الأزمة الأخيرة في كازاخستان تأثيرها في تعزيز روسيا لنفوذها في منطقة آسيا الوسطى.
وهو ما يعني تزايد أهمية روسيا للصين. كما أن القناعة الصينية جراء الحرب الأوكرانية ستكون في تزايد بضرورة التحالف مع موسكو في مواجهة الغرب.
وسواء تحالفت الصين مع روسيا أم فضلت النهوض وحدها كقوة عظمى مع الإكتفاء بالتنسيق مع روسيا فإن التحدي الغربي يشكل سببا كافيا لإحتمال تنامي نشوء تحالف بين القوتين ينتج عنه تحالف أوسع وتأسيس نظام عالمي جديد.
امبراطورية السلاح.
لم تتوقف تقارير إعلامية عن إتهام أمريكا بعزمها بقاء الصراع في أوكرانيا لأمد طويل خدمة لمصلحتها الجيوسياسية الخاصة ومصنعي الأسلحة الأمريكيين.
إضافة إلى أن واشنطن تستخدم الفوضى لأجل التلاعب بأوروبا والناتو تحت غطاء التهديد الروسي. ما يعني أن أمريكا لن تخرج خاسرة بكل الأحوال من حرب أوكرانيا وروسيا.
وإن النظام العالمي الجديد لن يقوم على إنقاذ النظام المحتظر لأن أمريكا ستظل قوة عظمى مع تغير وحيد بأنها لن تبقى القطب الأوحد . جراء بروز عالم متعدد الأقطاب عسكريا وإقتصاديا.
إلا أن أمريكا ستواجه التحالف الروسي الصيني بإبقاء الناتو محاصرا لغرب روسيا تقريبا. مع ضم المزيد من الدول إلى الحلف الذي يقض مضجع بوتين.
كما ستدفع أمريكا إلى زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي بالتزامن مع فرض المزيد من العسكرة والتسليح وبناء القواعد في دول أوروبا الشرقية بهدف جعل الإمبراطورية الروسية المعادي تشكيلها أشد عزلة عن الإقتصاد العالمي.
في وقت سيحاول كل الغرب بناء كتلة إقتصادية تنبذ الصين وروسيا وتقودها مجموعة السبع وحلفاؤها الديموقراطيون الذين يسيطرون على أكثر من نصف ثروة العالم.
وفيما يخص ملفات وصراعات العالم فإن معرفة أمريكا أنها ستفقد كثيرا من قوتها فيما يخص فرض إرادتها بكل الصراعات والملفات و من المرجح أن تحاول واشنطن الإحتفاظ بذات المؤسسات الدولية.
بينما قد تسعى الصين وروسيا لإعادة تشكيل مؤسسات الأمم المتحدة بما يتناسب مع حقائق جديدة بأن موسكو تسيطر بشكل فعال على جزء كبير من أوروبا الشرقية. بينما تسيطر الصين على جزء كبير من شرق آسيا وغرب المحيط الهادي.
النفط حصان عربي أصيل.
في وقت كان كل الكوكب يتحدث عن الطاقة البديلة والمتجددة جاءت حرب أوكرانيا وروسيا لتضع مصادر الطاقة الأحفورية على عرشها مجددا فمن يملك النفط والغطس يملك اوراق النصر.
ففي وقت كبلت روسيا أيادي أوروبا بمجرد التلويح بإغلاق صنبور الطاقة عنه وجدت الدول العربية المنتجة للنفط والغاز نفسها في إنتعاشة كبيرة مع تحسن صناعة النفط والخام بالتزامن مع إرتفاعات كبيرة في أسعارها إذ صعد سعر برميل النفط الى أعلى مستوياته في اربعة عشر عاما.
بينما إرتفعت أسعار الغاز الطبيعي إلى أكبر سعر في تاريخ القطاع ما أبرز دور دول الخليج العربية كقوة اقليمية كبرى. خاصة مع إعلان الولايات المتحدة حظر النفط الروسي من دخول البلاد وإتخاذ بريطانيا القرار ذاته.
في وقت يرجح تأخر عودة نفط الخام الإيراني الى الأسواق جراء عدم التقدم بمفاوضات الملف النووي الإيراني وإستمرار العقوبات على طهران. ما أمن ميزانيات مالية كبيرة لدول الخليج العربية تجعلها قادرة على إطلاق إستثمارات كبرى وتعزيز قواتها العسكرية وتكريس قوى إقليمية.
ورغم عدم وجود ترجيحات بقلب دول الخليج تحالفاتها إلا أنها ستعيد تشكيل العلاقة مع الولايات المتحدة وتنفتح أكثر على القطبين الجديدين روسيا والصين.
خاصة وأن السعودية والإمارات رفضت قبل طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن من منظمة الدول المصدرة للنفط اوبك زيادة الإنتاج لسد الفجوة المحتملة في إمدادات الطاقة من روسيا.
خارج عالم الدولار.
تذهب معظم المراكز البحثية إلى أن إنتهاء الحرب الروسية الأوكرانية باعمالها العسكرية لن يكون إلا البداية الحقيقة لحرب إقتصادية وسياسية وإعلامية بين أمريكا وأوروبا من جهة وروسيا والصين من الجانب الاخر ما سيدفع روسيا والصين لإيجاد عالم إقتصادي خارج عالم الدولار وسويفت.
إذ بدأت الصين وروسيا بالفعل التعامل ببطاقات موازية للفيزا والماستر كارد ما يؤسس لنظام عالمي إقتصادي موازي يقسم العالم إلى فسطتين ويجعله أمام نظامين إقتصاديين.يحمي كل منهما قوى عسكرية موازية أيضا ما يعني أن موازين القوى الجديدة في عالم ما بعد حرب أوكرانيا وروسيا سيتضمن نشوء سوق عالمية موازية تفرض أمريكا قطيعة تامة عليها. مع بقاء إحتمال نشوء اقتصاد ثالث بينهما يشق طريقه إلى العالمية.
وبالتالي دخول مرحلة عالم متعدد القطبية سياسيا وعسكريا وإقتصاديا. وما إن تضع حرب روسيا وأوكرانيا أوزارها بأي مسارات أو نهايات كانت. فإن قيادة العالم إما أنها ستصبح ثلاثية بالفعل أو ربما يكون عالما بلا أقطاب يشبه جزرا أقل منعزلة من التحالفات والخصومات.
ولا يبقى على أمريكا وأوروبا من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى. إلا أن يقرروا أيا من العالمين يريدون أن يعيش به أهل الأرض.







