في أواسط العام 2018 كان العالم أجمع بإنتظار لقاء وصف بالتاريخي حينها. سيتم بين رئيس دولة معزولة ورئيس أقوى دولة في العالم.
والحديث هنا عن كوريا الشمالية والولايات المتحدة. لقاء كان لابد أن يفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين البلدين الذين تبادلوا العداء لسنوات طويلة.
ولم يفلح سقوط العملاق السوفيتي في إنهاءه ومع ذلك ورغم اللقاء كانت كوريا الشمالية تضع كل الإحتمالات أمامها. حتما سيكون النقاش حول النووي وتحديدا حول تخلي بيونج يانج عن برنامجه الذي يسبب القلق لواشنطن والدول الغربية بشكل عام.
لكن الأخيرة كانت تعرف ما سيحدث. فحتى قبل أن يعقد اللقاء خرج وزير الخارجية الكوري ليقول إذا حاولت واشنطن التضييق علينا وإرغامنا على التخلي عن السلاح النووي من جانب واحد فلن نبدي إهتماما بالمحادثات.
سبق ذلك التصريح الذي إعتبر تحديا لواشنطن. إستشهاد كوريا الشمالية لخمس مرات متتالية ببلد آخر وزعيم آخر وافق على نزع سلاحه النووي في النهاية كان مصيره القاتل على أيدي الأمريكيين وحلفائهم.
ولصدفة القدر كانت كوريا تشير إلى ليبيا وبالتحديد ليبيا معمر القذافي.
فهل حقا كتب القذافي نهائي بيده ؟
وما هي قصة المشروع النووي الليبي؟
ومن أين بدأت؟
وإلى أين وصلت التجارب تلك؟
منذ صعوده الأول شكل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي حالة من الجدل والغموض حول نواياه وطموحاته. فقد نفسه قائدا للثورة وإنطلق لدعم حركات التحرر والثورات في مختلف البلدان الأفريقية والعربية.
وكان له في كل دولة حكاية ورواية لكنه لم يغفل قلب ليبيا ولم يتراجع ولو للحظة عن خططه التي وضعها وكان من بين إمتلاكه للقنبلة النووية. ليدخل نادي الكبار ويكون صاحب ورقة رابحة تحميه لسنوات وسنوات.
في الواقع تعتبر ليبيا من أول الدول التي وقعت على معاهدة عدم إنتشار الأسلحة النووية، وجاء ذلك في العام 1968. وذلك في عهد الملك الليبي إدريس السنوسي. لكن تلك المعاهدة بقيت حية فعليا لعام واحد فقط.
ففي العام التالي نجح معمر القذافي بالإستيلاء على الحكم ليدير البلاد التي أراد أن يكون زعيمها. ويحط بقبضته الحديدية على كل شاردة وواردة فيها.
وبالطبع لم يخف طموحاته للعالم وخصوصا بين دائرته المقربة وكان من بينها إمتلاك أسلحة نووية.
ولتنفيذ تلك الخطة كان لابد من تأكيد أن ليبيا لا تريد الحرب بل تريد النووي من أجل السلام فقط. وبالفعل صادق القذافي مرة ثانية عام 1975 على معاهدة حظر إنتشار الأسلحة النووية. ووقع عام 1980 مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إتفاقية الضمانات.
لكنه بعد عام واحد فقط إنطلق بمشروعه الحلم. ولكن بشكل سلمي حيث نجح الإتحاد السوفيتي حينها بإكمال إنشاء أول مفاعل في ليبيا. وكان مفاعل أبحاث بقدرة عشرة ميجاوات فيتاجورا.
وقيل حينها أن ليبيا ستشتري المعالج بشكل خفيف من النيجر وبلغت الكمية وقتها أكثر من الفي طن. وبعد ذلك المفاعل إنطلق القذافي بحثا عن قنبلة نووية يرعب فيها الدول التي تتربص بليبيا.
وكونه قد وقع على إتفاقيات تحد من إنتشار تلك الأسلحة القذافي من الحصول على قنبلته النووية بشكل قانوني.
وكان الطريق مفتوحا أمامه للبحث في السوق السوداء التي تحولت في تلك الفترة إلى سوق مزدهرة للغاية وإتخذ العديد من العلماء تجارة تلك التقنية كعمل مربح وكان من بينهم السويسري شتينير الباكستاني عبدالقدير خان.
فقبل حتى الثمانينات القرن الماضي حاول معمر القذافي الحصول على القنبلة النووية جاهزة من عديد الدول كان على رأسها الصين التي دخل معها بمفاوضات طويلة لشراء قنبلة منها عام 1970.
وقال حينها أنه لن يستخدمها ويبقيها كرادع أمام إسرائيل التي تتمدد بالمنطقة لكن محاولاته باءت بالفشل جميعها. وأجبر على المحاولة من جديد.
ليتجه بعدها إلى باكستان عارضا مبالغ طائلة للغاية وتقول تقارير إستخباراتية أن القذافي إستعان بوسطاء نافذين في الحكم الباكستاني.
ومع ذلك رفضت الأخيرة بيعه القنبلة أو حتى التقنية. وكانت النهاية بإعلانه قطع العلاقات مع باكستان بالكامل.
ولكون باكستان من ألد أعداء الهند. لم يغفل القذافي الدولة النووية الثانية والتي يمكن القول أنها ارادت أن ترضي القذافي فقط لإغضاب جارتها باكستان.
فعلى الرغم من رفضها بيعه القنبلة النووية لكنها ساعدت ليبيا على نقل بعض التقنيات لها. وكان لها دور بارز في تشغيل مفاعل تاجوراه بعد إنشائه.
لم يكتفي القذافي بهذا الحد فقد أشارت تقارير وكالة الطاقة الذرية أنه دخل بمفاوضات متكررة مع بلجيكا والإتحاد السوفيتي لإنشاء محطة للطاقة النووية الخامسة.
لكن كل ذلك لم يفلح معه ليعود بعدما أنشأ له السوفيات المفاعل السلمي ويتجه للسوق السوداء. فقد تمكنت ليبيا خلال العام 1980 وحتى العام 1995. من الحصول على العديد من التقنيات والأساسات لإنشاء أولى المحطات النووية. كما أرسلت بعضا من علمائها للدراسة في الخارج وتحديدا في ماليزيا.
حيث كان يقيم الباكستاني عبدالقدير خان. وذلك ليعودوا حاملين معهم كل ما تحتاجه القنبلة الليبية.
لكن ذلك كان في الواقع يجري أمام أنظار الأمريكان بالتحديد فقد ذكر مدير عام وكالة الطاقة الذرية السابق محمد البرادعي أنه قام بزيارة لليبيا للبحث حول خططها النووية والتأكد من حقيقة قيامها بتدشين العديد من المفاعلات.
لكنه حينها أكد أن القذافي نفى الأمر بالكامل على الرغم من تأكد الأمريكان من المعلومات.
وكما جرى في مختلف الدول فرضت واشنطن سيف العقوبات على نظام معمر القذافي لكن ذلك السيف لم يغير في الواقع شيء.
حيث إستمر بطموحاته حتى جاءت اللحظة الفارقة عام 2001 باقدام واشنطن على إعلان حربها على الإرهاب وتهديد كلا من العراق وكوريا الشمالية بالغاز .
فسعى القذافي إلى حل الأزمات النووية الليبية مع الولايات المتحدة وقال حينها أنها بهدف رفع العقوبات المفروضة على ليبيا ، لكن وزير خارجية القذافي السابق عبدالرحيم شلقم كشف كل التفاصيل بعد ذلك.
إذ قال بأن السبب وراء تخلي القذافي في نهاية المطاف عن أسلحة الدمار الشامل وبرنامج الأسلحة النووية تمثل في رسالة مسجلة عام 2001 من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش والتي كانت تتوجه للقذافي حرفيا. بأن يتخلص من أسلحة الدمار الشامل أو أن أمريكا سوف تتدخل و تدمرها بنفسها وتدمرها دون مناقشة.
الذي إستدعى من المسئولين الليبيين آنذاك عقد إجتماعات سرية مع مجموعة من المسؤولين البريطانيين والروس والأمريكان بهدف تفكيك البرنامج بشكل رسمي.
وفي مارس من العام 2003 وتحديدا قبل أيام معدودة من غزو العراق إتصل مبعوثوا القذافي الشخصيين بالرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ودار حديث بين تلك الأطراف عن إستعداد ليبيا لتفكيك برنامجها النووي.
وبتوجيه مباشر من معمر قدم المسئولون الليبيون لدبلوماسيين البريطانيين والروس والأمريكان مجموعة من الوثائق وتفاصيل إضافية حول أنشطة ليبيا الكيمياوية والبيولوجية والنووية إلى جانب الصواريخ الباليستية.
ووفقا لما أفادت به مصادر مطلعة فقد سمحت ليبيا للمسئولين الأجانب التابعين للدول الاجنبية الكبرى الثلاث بزيارة عشر مواقع مصنفة كسرية حينها وعشرات المعامل والمختبرات العسكرية الليبية. للبحث عن أدلة على الأنشطة المتعلقة بدورة الوقود النووي والبرامج الكيائية والصاروخية.
وفي أكتوبر من العام ذاته داهمت وكالة المخابرات الأمريكية سفينة شحن وصادرت شحنة من المعدات المتعلقة بالطرد المركزي في ميناء شمال البحر الابيض المتوسط كانت في طريقها إلى ليبيا
وفي وقت لاحق كشفت التحقيقات الأمريكية أن العديد من هذه المكونات تم تصنيعها بواسطة منشأة في ماليزيا. وتم إنتاجها بتوجيه فني من الدكتور عبدالقدير خان ومجموعة من المواطنين من المملكة المتحدة وألمانيا وسويسرا ذاق الخناق على معمر القذافي.
بعد ذلك أكثر وأكثر حتى إندلعت الثورة بوجهه وتدخل حلف الناتو ليقتلع نظامه من ليبيا بالكامل ويعود قادة كوريا الشمالية ليذكروا العالم أن عملية نزع السلاح النووي من ليبيا لم تكن مجرد صدفة وأن واشنطن تحسب ما هو قادم باللحظة وكما تريد.
